الفروق الأساسية بين منهجي الفيلم الروائي والتسجيلي
1) منهج الفيلم الروائي :
منذ قرن كانت مهارة الحرفي هي السبيل الوحيد الذي يكفل تسجيل صورة شخص أو مكان أو شيء من أجل المتعة أو لاستخدامها كمرجع، أما اليوم فقد حل علم التصوير محل تلك المهارة الحرفية. ومنذ الأيام الأولى للمونتاج السينمائي وحتى الوقت الحاضر ومعظم حرفية الفيلم الروائي التي انبعثت من الأستوديوهات تبنى على حقيقة أن الكاميرا تستطيع أن تنقل الظواهر فوتوغرافيا على السليلوز الحساس ، وأنه يمكن من النيجاتيف عمل طبعة تعرض مكبرة على الشاشة بواسطة آلة العرض ، ونتيجة ذلك أن الاهتمام الذي وجه إلى الممثلين والمنظر كان أكثر مما وجه للمنهج الذي عن طريقه أمكن إظهاره على الشاشة. وهذا النظام الإنتاجي يتلاءم تماما مع التنظيم الإداري للأستوديو السينمائي الحديث ، فالحركات المناسبة للكاميرا والميكروفون تخلق أطوالا متعددة من السليلويد تتطلب مجرد التهذيب والجمع في تتابع صحيح لنحصل في النهاية على شيء له طبيعة الفيلم، وأحيانا تستخدم حيل الكاميرا أو الصوت البارعة لإبراز مثلا فكرة مرور زمن أو لإبراز تغير المنظر. إن الأمر ليس بهذه السهولة ، ولكن الناحية الجوهرية هي أن الفيلم المنتج فيض من الحياة ويعبر عن المغزى بواسطة نقل التمثيل إلى الشاشة والكلمات إلى مكبر الصوت.
لذلك فمهارة الفنان تكمن في معالجة القصة وإرشاد الممثلين في الإلقاء والتعبير بالحركة وتجميع المناظر المنفصلة على هيئة فيلم وتحركات الكاميرا وتناسب المجموعات. في كل هذا يساعده كتاب الحوار والمصورون ومهندسو المناظر وخبراء الماكياج ومسجلو الصوت والممثلون أنفسهم ، بينما يقوم قسم المونتاج بتجميع المناظر التي تنتهي حسب ترتيبها الأصلي .
وفي هذه الحدود فإن الفيلم الروائي قد اتبع التقاليد المسرحية في موضوعه بدقة ، وبمرور الزمن استبدل بالأشكال المسرحية الأشكال السينمائية ، وبالتمثيل المسرحي التمثيل السينمائي طبقا لمتطلبات الكاميرا والميكروفون.
2) منهج الفيلم التسجيلي :
إلا أن المجموعة الفكرية المقابلة إذ تقر نفس الوظائف الأولية للكاميرا والميكروفون وآلة العرض، تبدأ في الاعتقاد بأن أي شيء يصور أو يسجل على السليولويد لا يكون له معنى حتى يصل إلى منضدة المونتاج ، وأن المهمة الأولية للإبداع السينمائي تكمن في المنبهات المادية والعقلية التي يمكن أن يقدمها من يقوم بالمونتاج . فطريقة استخدام الكاميرا والعديد من حركاتها وزوايا الرؤية بالنسبة للأشياء التي تصور والسرعة التي تظهر بها الحوادث بل وحتى ظهور الأشخاص والأشياء أمامها ، كل هذا تهيمن عليه الطريقة التي ينجز بها المونتاج ، وينطبق هذا تماما على الصوت ، ومثل هذا المنهج يتضمن أن عقلا واحدا يتحمل مسئولية شكل الفيلم الكامل ومعناه ، ويجري عملية المونتاج ، كما يقوم في بعض الحالات بالتصوير، وذلك حال لا يلائم مناهج الإنتاج الواسع النطاق بتاتا.
وفي هذه الحدود حدث تحول بعيد عن التقاليد المسرحية إلى ميادين الواقع الواسعة، حيث اعتبرت تلقائية السلوك الطبيعي خاصية سينمائية ، واستخدام الصوت بطريقة خلاقة استخداما ترديديا ، وهذا هو الأساس الحرفي للفيلم التسجيلي بلا شك.
إن الفيلم التسجيلي يتطلب طرقا جديدة في بنائه، ومبادئ جديدة في إنتاجه، مغايرة لتلك التي تحكم الفيلم الروائي، والأهم من كل ذلك أنه يتطلب موقفا جديدا من السينما. فما هو هذا الموقف، وما هي المواد والوسائل الفنية التي يستخدمها العاملون في حقل الفيلم التسجيلي للتعبير عن هذا الموقف؟
المتفرج والفيلم التسجيلي والروائي :
لا يهتم الفيلم التسجيلي بما يسمى العقدة ، وهي عبارة عن أحداث تدور حول أشخاص ومواقف تنشأ عن سلوكهم ، وإنما يهتم بفكرة تعبر عن هدف محدد ، ولذلك فهي تتطلب من المتفرجين اهتماما مختلفا عن ذلك الذي تتطلبه الرواية العادية، فالأحداث ـ والعواطف الفردية في الرواية ، أهم من أي شيء آخر . ويساعد على تأكيد ذلك في أذهان الجماهير نظام النجوم الذي يتخذ ستارا لتفادي الموضوعات المتصلة بالواقع ، ويتيح الفرص العديدة لاستغلال عامل الجنس.
أما الفيلم التسجيلي فجاذبيته من نوع مغاير تماما، فليس له قصة فردية، ولا نجوم مشهورين، ولا يعتمد على الثراء الفاحش الذي تحاط به الأفلام الروائية. إن الفيلم التسجيلي يعتمد كلية على الاعتقاد بأنه لا شيء يجذبنا أكثر من أنفسنا، إنه يعتمد على اهتمام الفرد بالعالم المحيط به.
وإذا تضمن الفيلم التسجيلي أشخاصا فهم ثانويون بالنسبة للفكرة الأساسية فيه، ولذلك فمشاكلهم الخصوصية لا أهمية لها. وهم في العادة يلعبون دورهم في الفيلم كما يؤدونه في حياتهم العادية تماما. أما الدراما في القصة والبناء في الشخصيات، فليس في أيديهم ، بل في طريقة المخرج وأسلوبه ومنهجه ، إنهم أنماط اختيروا من الجماعة ليصوروا عقلية وتفكير هذا القطاع الاجتماعي أو ذاك . وإذا وجدت مناظر ضخمة ، فلأنها أصيلة ، ولأنها تنبع بشكل طبيعي من الموضوع . والخلاصة هي أن للفيلم التسجيلي دائما هدفا محددا يرمي إلى تحقيقه ، وهذا الهدف هو الذي يجب أن يكون العامل الأول في جذب المتفرج.
ولكن يجب أن نذكر ان عدم وجود القصة أو النجوم في الفيلم التسجيلي ، يضطر المتفرج إلى الإحساس الشديد بوسائل عرض الموضوع ، فالتصوير الضعيف والمونتاج غير المتقن ، أو استعمال الصوت استعمالا غير سليم، كل ذلك يظهر فيه بوضوح ، بينما في الفيلم الروائي قد يخفي الانبهار بالموقف نفسه كل هذه العيوب أو بعضها . وهكذا نخرج من ذلك بأن العيوب في الفيلم التسجيلي تبدو بارزة لأنه ليس هناك ما يخفيها ، ولذلك علينا الاهتمام بالحرفية. ولكن دون أن نسمح لها أبدا بأن تلعب الدور الأول في الفيلم ، ذلك الذي يجب أن يعطى دائما للموضوع وللفكرة .
والموضوع في الفيلم التسجيلي يجب أن يعرض بمنتهى الوضوح والتلخيص ، بحيث تمهد كل نقطة لما بعدها ، وبحيث لا ينقطع حبل التفكير أو تسلسل الأفكار. ويجب أن يكون الفيلم التسجيلي قصيرا ، لا يزيد عن ثلاثة أو أربعة فصول، ففي عصر السرعة الذي نعيش فيه ليس هناك وقت للمناقشات المطولة . فكثير من الموضوعات لها جوانب متعددة ، وبغير مراعاة الحرص ، يحتمل الاندفاع فيها مما يعقد الموضوع ويطيله . إن عشرين أو ثلاثين دقيقة من التركيز التام تساوي الكثير إذا نجح المخرج في الاستغلال السليم . وهذه المدة في الواقع أقصى ما نستطيع أن نتطلبه من المتفرج العادي.
وفى كثير من الأحيان يعتقد البعض أن الفيلم التسجيلى هو مجرد فيلم قصير فحسب أو أن القصر هذا من خصائص الفيلم التسجيلى وحده , وهذا خطأ لا ينبغى لنا أن ننساق خلفه , فالفيلم التسجيلي يمكن أن يكون فيلماً قصيراً وممكن أيضا أن يكون فيلماً طويلاً , وشأنه في ذلك شأن الأفلام الروائية , فهي من الممكن أن تكون أفلاماً قصيرة أو أفلاماً طويلة والذي يحدد ذلك هو طبيعة الموضوع ذاته فالموضوع وطريقة المعالجة هو الذي يفرض طول أو قصر الفيلم وليس كونه فيلماً تسجيلياً أو روائياً . هذا وعند التعامل مع الحقيقة فى أحد الأفلام يجب أن تتغير الحقيقة نوعأً ما فيجب أن نختار منها ونعطيها صيغة معينة وشكلاً ما . إن صناع الأفلام يحاولون جاهدين أن يعطوا المتفرج الإحساس والشعور , ويقدموا انطباعاً للحقيقة الموجودة فعلياً حتي إذا لجأ بعضهم إلي استخدام التكنيك السينمائي الواضح لإنجاز هذا . إذا فالسينما التسجيلية هي معالجة للواقع وهذا الجانب الموضوعي فيها والمعالجة تكون خلافه وهذا هو الجانب الذاتي في السينما التسجيلية .
ولأن كل اتجاه في السينما يعكس السمات الاجتماعية والسياسية للمرحلة التي يظهر فيها ـ وهذه بدورها انعكاس للظروف الاقتصادية القائمة . لذا فإن منهج الفيلم التسجيلي ـ كنوع متميز من الفيلم ، وكتعبير عن إحساس اجتماعي وتفكير فلسفي يختلف جد الاختلاف في الهدف والشكل عن دوافع التسلية الخاصة بالفيلم الروائي ـ قد أصبح حقيقة مادية نتيجة للمطالب الاجتماعية والسياسية والتعليمية.
أى أن الفيلم التسجيلى هو فيلم مصمم أساسا ليقدم معلومات ويؤثر فى المتفرج ويحثه , أنه فيلم ذو رسالة يبيع أفكاره فى كل مجالات المعرفة الإنسانية , ويستمد مادته من واقع الحياة , سواء كان ذلك مباشرة أو عن تكوين هذا الواقع وهو يعتمد على فكرة رئيسية وتكون له قيمة اجتماعية كذلك . وأهم ما يميز الفيلم التسجيلى هو أنه ينبع دائماً من الواقع , فالواقع هو الموضوع الرئيسى الذى ينطلق منه ولكن يجب أن يكون الخيال هنا أساسه الواقع ونابعاً منه أى أننا لا يجب أن نترك العنان لخيالنا الروائى يبتدع أشياء غير موجودة فى هذا الواقع .
الحرفة والفيلم التسجيلي والروائي :
كما ذكرنا من قبل، إن الفيلم التسجيلي عمل فردي إذا قورن بالفيلم الروائي ، ولكننا هنا يجب أن نوضح أن الفيلم التسجيلي الاجتماعي الذي ننشده يعالج موضوعات لا يستطيع عقل فرد واحد أن يلم بها دون معاونة الخبراء، وخاصة إذا كانت الأهداف كما ذكرنا اجتماعية أو سياسية.
وإذا كنا قد أخضعنا الفكرة والموضوع للمناقشة ، فإن التعبير عنها سينمائيا هو من عمل الفنان ، وبتعاونه مع غيره من الفنانين، وهذا لا يتأتى إلا إذا جمع بين هؤلاء الفنانين هدف اجتماعي واحد يريدون تحقيقه ، وإذا سمحنا للمخرج بأن يفعل ما يشاء في إحدى الجزر النائية ، فإن المخرج الذي يعمل في الجبهة الداخلية معبرا عن بعض مظاهر المشاكل السياسية والاجتماعية التي تغشى عادة مجتمعا بكامله ، يجب عليه ألا ينفرد بالرأي إذا أراد أن يكون لعمله أية قيمة.
وكثيرا ما نسمع مقولة ان الفيلم التسجيلى اكثر اثارة بالنسبة للمونتير وانه يستطيع فيه التعبير عن نفسه اكثر. وتكون الاسباب المذكورة هى : حرية أكبر فى الحركة ، نوع من الحكاية قابل للتأثر بالمونتاج ، وفرصة النقاش الاعمق مع المخرج . فممارسة السينما التسجيلية كما كانت تمارس جعلت الاخراج والمونتاج فى الواقع فى اتصال حميم. ولان غالبية الاصوات كانت تضاف فى المونتاج ، فان كلا منها كان يوزن بدقة. فلم يكن يكتفى كما هو الحال فى ايامنا هذه بفيض من الكلام يغرق الجميع . لقد كان السنيمائى يتعلم كيف يعتمد على المونتاج كعنصر ضرورى فى الاخراج نظراً لعدم توافر التسهيلات الحالية فى تسجيل الصوت ولا الموارد السهلة من "الافلام" التى جاء بها الفيديو. هكذا، استطاع المخرجون والمونتيرون لتقاربهم بعضهم البعض من التعاون بشكل اكثر خصوبة . واستمرت هذه الميزة عندما كانوا معاً يقومون بعمل فيلم طويل روائى.
وهناك اختلاف كبير بين تصوير الفيلم التسجيلى وبين تصوير الفيلم الروائى ، ويؤثر هذا الاختلاف مباشرة على المونتاج ، ففى الفيلم الروائى، كل شى معروف مسبقا او مبدئيا ، والراكور يجب ان يكون موجوداً ، والنصوص وتحركات الكاميرا والممثلين يتم تنظيمها من اجل ذلك. على النقيض من ذلك يستدعى الفيلم التسجيلى عادة احداثا لا تحدث إلا مرة واحدة بحيث يصبح من الصعب "تقطيعها "مع تغيير احجام اللقطات ومحاورها ومع التداخل الذى يتطلبه المونتاج . حتى وان تعلق الامر بلقاءات ، فان الشخصيات المتحدثة لا تستطيع ان تحكى بالضبط القصة نفسها بالكلمات نفسها من لقطة إلى أخرى لانها شخصيات هواة يرتجلون.
وهكذا نرى أن مونتاج الفيلم الروائى يميل ، ناحية العرض التمثيلى . لكن مونتاج الفيلم التسجيلى يجب ان يربط بين العرض التمثيلى والصدق ، والواقع ان المونتاج لا يظهر الواقع ، وانما الصدق او الكذب. اننا نصل هنا إلى الايديولوجية ، والدرس الاخلاقى ، فى حدود ان المونتاج يستطيع ان يولد من الاحداث معنى خاطىء ، ومن هنا تكون الافلام الدعائية مخادعة ونسبية
ولكن يظل هناك فرق مهم بين الفيلم التسجيلى والفيلم الروائى ، هو فى الطريقة التى يمر بها الزمن داخل الفيلم . ان الطريقة التى يمر بها الزمن فى السينما ترتبط ارتباطا وثيقا فى الفيلم التسجيلى والروائى على السواء بنوعية الشخصيات ، والحوار, والاخراج ، وهذا لا يعنى ان المتفرجين لا "يفصلون" فى اى منهما ، وربما ليس الطريقة نفسها او فى الموضع نفسه، ان حقيقة ان تحكى لنا احداث حقيقية او غير حقيقية او ان يكون اصحاب هذه الاحداث الحقيقيون هم الذين يحكونها لنا ، تؤثر بشكل هائل على الطريقة التى ندركها . إننا نتقبل من شخص واقعى ان يكون متردداً ، ولكن بطء ممثل ما سيجعل صبرنا ينفذ ، ان احد ادوار المونتير الرئيسية هى ان يدرك هذه الفروق الزمنية وان يشعر دائما بانقباض او استطالة الزمن المفاجئة. وفى ذلك، لا تستطيع اية قاعدة او اى نظام ارشاده .
اذن نجد أن اهمية الفيلم التسجيلى تكمن فى وجهة نظر السينمائى فى موضوعه اكثر مما تكمن فى الموضوع نفسه، وهناك خطأ شائع يعتقد ان الموضوع القوى يكفى لصنع فيلم قوى . فمثلا عندما طُلب من محمود سليمان أن يقوم بإخراج فيلماً تسجيلياً , اختار ان يقدم لنا "السيدة التى تتعيش من سن السكاكين" بأسم " أنهم يعيشون بيننا " . هذه المرأة المتواضعة ذات المهنة المتواضعة التى ستختفى , مثلها فى ذلك كثير من المهن الاخرى الصغيرة ، اثارت مشاعرنا اكثر بكثير من النجوم العاديين الذين لا يمل الناس من ان يحكوا لنا حياتهم الصاخبة. هذه الضرورة فى ايجاد اسلوب محدد فى تقديم حدث واقعى هى التى يهملها التليفزيون احياناً. لقد عودنا التليفزيون على رؤية شهادات ولقاءات ووثائق من الارشيف دون أى راكور صورة . وتتحقق الاستمرارية فقط فى الصوت ، سواء تعليقا يقرأه صحفى شارحا الصور المتتالية ، او كلمات الشخصية المتحدثة التى تدلى بما عندها ، وقد تصور اللقطات فى تناقض مع اكثر القواعد الاسلوبية بدائية المستخدمة فى السينما ولكن ليس لهذا اهمية تذكر. المهم هو صدق الخطاب . ان غياب الاسلوب اصبح اسلوباً فى حد ذاته، او دليلا على الصدق وقد استخدم فى الوقت نفسه فى الاعلان وفى الافلام التسجيلية السيئة ، فى هاتين الحالتين هناك رغبة فى خداع المتفرج، لاننا نحاول ان نجعله يصدق صوراً سرقت من الواقع.
إن الأفلام التسجيلية تنغمس انغماساً كاملاً في قلب الحياة , وتعايش الواقع السياسي , والاجتماعي , والاقتصادي , والإنساني متابعة وراصدة كاشفة ومضيئة . وبناء عليه فرسالة الفيلم التسجيلي لها خطورتها ودورها وأهميتها من خلال ما يشاهده المتفرج سواء في دور العرض أو علي شاشة التليفزيون , ومن خلال عرض الحقائق والظواهر المختلفة تتشكل وجهة نظر المتفرج ويتكون رأي عام وذوق خاص بما يشاهده , فمخرج الفيلم التسجيلي يفهم ما يطرحه فهما صادقاً وعميقاً ويحاول أن يبلوره بفكر وموهبة صادقة وعميقة لكي يضعه في القالب السينمائي المناسب , ومن خلال تقنيات سينمائية عالية ومتطورة تفرضها طبيعة التطور الهائل الذي يجتاح عالمنا الآن . ويعتبر كل فيلم تسجيلي حالة في حد ذاته , وبحسب موضوع كل فيلم ونوعيته وظروف إنتاجيه يمكن تحديد شكل السيناريو الخاص به , فالمعروف أن المساحة التي يعمل فيها الفيلم التسجيلي مساحة كبيرة جداً , هي المنطقة الواسعة التي تمتد بين الواقع المحض وبين الخيال المحض .
وقد ظل الفيلم التسجيلي طوال عدة سنوات من عمره يعتمد علي الصورة والتعليق , ومع تطور تقنيات التصوير , والتسجيل الصوتي أمكن تبني عناصر السينما المباشرة في الفيلم التسجيلي , بحيث يمكن تصوير شخوص الفيلم التسجيلي وتسجيل أصواتهم الحية وهم يتكلمون وهم يتعاملون مع الآخرين , كما أمكن إجراء اللقاءات الحية معهم . لقد استطاعت السينما بمعطياتها الكبيرة , وإمكانياتها التكنولوجية المتطورة أن تنفذ إلي أسرار العمل الفني وأن تقف عند الملامح الدالة , والتعبيرات النابضة بوجدان الفنان , فتركز عليها وتسلط الأضواء , فإذا هي تتكشف للمتفرج فى رؤية شاعرة , وإذا هو يري من خلال العدسة السحرية ما يراه من خلال النظرة المباشرة إلي العمل الفني . وأصبح أمام السينمائي التسجيلي أشكال عدة وقوالب مختلفة تتميز فيما بينها حسب الهدف المطلوب بلوغه , وحسب نوعية وطبيعة المادة المراد تناولها , وخصائص الجمهور المستهدف . فالطبيعة والحياة تحويان صراعات لا تقل في حدتها عن الصراع الدرامي في المسرح أو الرواية أو القصة , ولكن المهم هو رؤية القائم بالاتصال للواقع المحيط واختياره للعناصر ذات الأهمية للجمهور المستهدف . ولم تقتصر رسالة الفيلم التسجيلي علي عالم الفن التشكيلي الرحيب , وإنما نفذ الفيلم إلي دنيا العلوم بأسرارها الغربية , وإلي العوالم الكونية الزاخرة فحلق في الفضاء , وغاص في أعماق البحار , وتحولت المواد التعليمية إلي عالم الصورة , فكان لها نفاذها وفاعليتها .
* * * * * *
نستخلص مما سبق أن الفيلم التسجيلي هو شكل مميز من الإنتاج السينمائي يعتمد كلية علي الواقع سواء في مادته أو في تنفيذه , لا يهدف إلي الربح المادي والتسلية بل يهتم بالدرجة الأولي بتحقيق أهداف خاصة ترتبط بالنواحي الإعلامية أو التعليمية أو الثقافية أو حفظ التراث والتاريخ , مخاطبا دائما العقل بشكل أو بآخر , ويتسم بالمباشرة والوضوح , وغالباً ما يتسم بقصر زمن العرض بحيث يتطلب درجة عالية من التركيز , ويتوجه في الغالب إلي فئة محددة ( مجموعة مستهدفة من المتفرجين) . وإذا كان شعار الفيلم الروائي والسينما الروائية ( السينما فن وصناعة وتجارة ) , فإن شعار الفيلم التسجيلي والسينما التسجيلية عموماً هو ( السينما رسالة وفن وعلم )